تحليل قصيدة : " الكريم الحر ليس له عمرُ" /أبو تمام
1) المقدمة:
**التمهيد:
× إن الشعر لا تعييه الحيلةُ : في حال النصر يمدح المتفوقين ويفردهم بصفات المجد وفي حال الهزيمة الشاعر يستعيد ذات معاني المدح ويعيرها للقائد المرثي بحلة تضع اعتبارا لتغيير المقام كما في قصيدة " كذا فليجل الخطب وليفدح الأمرُ".
× إذا مجد الشعراء الممدوح اعتبروهم متملقين يطلبون المال ولكن هؤلاء الشعراء أنفسهم تجدهم عند الرثاء يكررون نفس المعاني كأبي تمام يرثي محمد بن حميد الطوسي فهل ننزع عنه الصدق؟
× باستعمال المبالغة في التصوير والتضخيم قد ينفلت المعنى ونتعدى المقصود ، لكن أبا تمام في شعره المدحي يبالغ في اعتماد الصور الشعرية وكذلك نجده في قصيدته الرثائية " الكريم الحر ليس له عمرُ ".
** التوثيق والموضوع:
عاش أبو تمام في فترة الصراعات ضد الروم وضد الخرمية والمعروف عنه أنه مناصر لقضايا أمته.
القصيدة جزء مقتطف من قصيدة ذات ثلاثين بيتا ألفها أبو تمام بعد قتل محمد بن حميد الطوسي من قبل أتباع الخرمية الذين بذل في قتالهم البلاء الحسن حتى أنه كما يقال قد استعمل تسعة سيوف : كلما قطع له سيف منشدة الضرب عوضه بآخر.
× يرثي الشاعر محمد بن حميد الطوسي ذاكرا فضائله في الصمود ومتحسرا على فقدانه تحسر قبيلته والكون كله.
**مراكز الاهتمام:
× معاني التفجع وخصائصه الفنية والأسلوبية .
× أهلية القائد للتفجع في شأنه × التعزي.
**الوحدات:
×حسب ما يسبق فاء النتيجة وما يلحقها حتى البيت التاسع :التفجع نتيجة مناقب الشهيد في حياته.
× البقية فالتفجع نتيجة الموت الذي داهمه.
2) التحليل:
**معاني التفجع وخصائصه الفنية والأسلوبية:
× يجري أبو تمام قصيدته على بحر الطويل خلافا للقصيدتين في المدح التين سبق أن تناولناهما بالتحليل: حيث استعمل الشاعر بحر الكامل. هذا يعني أنه يختار الكامل المعروف باعتباره من البحور الخفيفة فيكون مناسبا للمدح التابع لمناسبة النصر والفوز بينما البحر في قصيدتنا هذه من البحور المركبة يتميز بطول النفس يناسب الحالة التي عليها شاعرنا ليفضي لنا ما في نفسه الملتاعة.
× القافية : حرف الراء المناسب في حالات المرارة هذا الحرف له ميزته أنه ذو صوت مكرر ولا يخفى ما في المناسبة من تكرار الحزن.
× تكرار الحزن نفهمه مع كل مأثرة أو فضيلة يتذكرها الشاعر فتولد لديه الحزن من جديد أو تثيره. ذلك رأينا أنه انعكس على الإيقاع الخارجي ونراه في ذات الوقت ينعكس على الإيقاع الداخلي حيث تعترضنا أصوات متكررة حروفا مفخمة كالصاد والضاد والراء والطاء والقاف... وكلمات متنوعة: ذكر الفتى ثلاث مرات و فعل مات كذلك ثلاث مرات ومرتين مع كلمة النصر ثم كلمة الكفر نفس الحال مع الجناس في البيت الثاني بين السفر والسفر ومع التشقيق اللفظي في استعمال الجذر ( ش؛ ط ؛ ر ) في البيت الرابع والجــــذر ( ض؛ر؛ب ) .
× مثل هذا الغنى في الإيقاع نقدر أنه إيقاع حزن وما كثرته إلا انعكاس لشدة التفجع من جهة ولتضخمه مع كل ذكرى من جهة أخرى.
× الصور الشعرية تشترك مع الإيقاع في نقل ما ذكرناه من ألم التفجع :
- صورة الخطب أو المصيبة : حيث نلاحظ عدم اهتمام أن أن يرتفع الخطب والأمر إلى أعلاه مستقبلا لأن ما يقع في الحاضر من مصيبة عظمى تكون قد قضت على أي نظر لغيرها لذلك تأتي الصورة المائية تتحدث عن الدمع كالماء يفيض لمصاب موت المرثي لاعتباره فارسا ساعدا يحمل الآمال للمسلمين وللعرب. هذا تبرير التشجيع على الأحزان وعلى الخطوب [15]
- صورة الآمال: جعل الشاعر للآمال عمرا كالإنسان انتهى بموت الفارس المرثي وهذا يوضح مدى التلازم بين المرثي والآمال
- صورة كونية: تصل المبالغة عند أبي تمام إلى اعتبار أن الحركة الكونية في تعاقب الليل والنهار قد تعطلت. ونتيجة ذلك تقف جميع الأنشطة البشرية بما فيها حركة السفر وحركة الحرب التين كنا عنهما بالجناس " السفر والسفر " الذين عادا بلا رابط بينهما.
- صورة الحزن والضحك: نتبين هنا المقابلة بين حزن قبيلة المرثي من جهة على فارسها وافتخارها به من جهة أخرى لأنه يمثل عزتها وفخرها إذ أخبار بطولاته تتجاوز حدود قبيلة طي لتمتاز بالشهرة وينتشر أمرها بين القبائل وهو ما يسوقه الفعل "ضحكت"[16] في البيت3.
- صورة الفتى: تكرار كلمة الفتى يحمل أكثر من دلالة منها التحسر على موته ومنها الإشارة إلى موته في سن مبكرة ومنها أنه يمتاز في عصره حيث تجاوزنا مفهوم الانتماء للقبيلة إلى الانتماء للأمة الإسلامية : يمتاز ببطولته وبأخلاقه.
- كأننا بذكر الفتى ثلاث مرات انتقلنا من التعريف بالخطب الجليل إلى التعريف بالشخصية وكأننا بالشاعر يسعى إلى وضع بورتريه خاص بالقتيل يخلده أو هو ينحت له تمثالا يشهد له ولكن الأداة هنا تختلف ليست الريشة أو المسمار بل هي اللغة والعبارة.
- ملامح الشخصية: فتى شهم يجمع إلى بأسه الكرم، موت الفتى ليس هزيمة بل نصر يخلد ذكراه،
- الفتى الشجاع: الصورة التي تبرز للمرثي في البيتين السادس والسابع صورة الفارس المستبسل في القتال لا يرضى لنفسه أن يفر من أرض المعركة مع أن الإقدام على الهروب سهل يجلب لمحمد الطوسي النجاة غير أن نفسه عالية وترفض أن توجه لها عبارات الاتهام بالجبن والضعف فكان منه أن تمثل قول: "نحن قوم ننتصر أو نموت" فصمد في ساحة الوغى وضرب وكان يضرب بسيفه حتى إذا قطع أبدله بغيره فيقال إنه استعمل في ذلك اليوم في قتاله تسعة سيوف واختار مواجهة أعدائه رغم فرار من معه وقاتل قتالا مشرفا.
- قاتل من الصبح عند الشروق حتى الغروب حتى مات سيفه واعتل رمحه وهنالك كان اجتماع الأعداء عليه وضربوه ضربة رجل واحد
- المرثي كان يعد الحياة في ظل الفرار كما يرد في الكنايتين "الحفاظ المر والخلق الوعر" لأن ذلك يجلب له العار الذي تعافه نفسه.
= تأليف الجزئي:
يبدو أن الشاعر قد جمع في الوحدة الأولى ما يملكه فنيا إيقاعا وتصويرا وبديعا حتى يحاكي ما أصاب الأمة وقتها من خسارة ليس لها من تعويض فبارك القيم التي برزت عنده منها ما رأينا من معاني الحماسة المتمثلة في الصمود والاستبسال والشجاعة وعلو الهمة في مقابل العار والفرار والنجاة من الموت [17] فنفوز بحكم ذلك بصورة كاملة عن القائد الشامخ الذي يشرفه موته ويكون المثال لغيره. لكننا قد يثيرنا ما بدا عند أبي تمام ما بدا منه سعيا للإحباط عن الجهاد وعن القتال بعده فهل يبرر الحزن على الفقيد مثل هذه الدعوة؟
** أهلية القائد للتفجع في شأنه:
× نرى التفجع لا يصيب الشاعر وحده بل يذكر المتفجعين كلهم فإذا دائرتهم تتسع من الراثي فردا إلى قبيلته بني نبهان جمعا إلى العلى والجود والشعر قيما إنسانية فاضلة.
× المقصد هنا أن شاعرنا خسارة فـُـجِعت فيه الإنسانية لنقدر من ذلك أنه فوق الناس فضلا ورفعة وهو ما يذكره لنا الشاعر في طريقتين:
- غير مباشرة بواسطة الاستفهام الدال على التيئيس من الصبر بعد موت المرثي ذلك أن ما نصبر عليه قد نعوضه في حين الفقيد في هذه المرة لا تعويض له.
- مباشرة في الوصف الوارد في البيت الخامس عشر: عذب الروح ومتواضعا رغم أنه رفيع : هنا لسنا أمام بشر بل أمام ملك.
- الموازنة في البيت السادس عشر : يظهر أنه مات وهو وحيد فر الجنود وخذلته الخيل وأعاقته السيوف وأدارت الحرب ظهرها له.
× نتيجة فقدان محمد الطوسي تعطل أدوات الحرب وسلاحها لم تعد بواتر بل أصبحت مبتورة وكذلك الحرب لم يعد لها جمر يشعلها. وظف الشاعر لأداء هذا المعنى المقابلة في البيت السابع عشر في إطار عرض زمني يقابل بين زمني الماضي والحاضر.
= تأليف الجزئي:
شك أن الشاعر قد تناول من الصفات التي ألقاها لمرثيه حتى يظهر في صفاء روحه وفي قتاله وفي موته فريدا لا يتسنى إيجاد من يعوضه ومن يعيد أفعاله فيحق بذلك أن يتفجع عليه كل الخاسرين بشرا وقيما فكان موته فوزا له وخسارة لمن دونه فلمن تدق طبول الحرب بعده.؟
**التعزي:
ينقسم التعزي حسب البيتين الثامن عشر والذي بعده إلى دعاء على الغيث نفسه بالغيث مما يعني أنه مهما علا شأنه فإنه في قبره يبقى الإنسان الذي يحتاج رحمة الله به. وبعد الدعاء نجد إقرار الشاعر بالنهاية الحتمية فيودعه وداعا نهائيا وينهي بيته بحكمة تلخص شخصية الرجل ونهايته أنه عاش حرا كرينا وفي النهاية عمره قصير وكأن كل جميل ليس له اكتمال.
** التأليف الكلي:
لاحظنا أن التفجع على الفقيد بلغ حدا مغاليا مبالغا كأنه يقطع مع الحياة ومع الاستمرار بسبب فقدان المرثي مع أن الدين الإسلامي يدعو إلى التوازن[18] وأن أبا تمام في كم من موضع كنا نجده متبنيا للقضايا الإسلامية مدافعا عن الدين . قد نفسر ما برز من الشاعر في تضخيمه لصورة المرثي أنه لم يكن ينزع نحو تزيين صورته فحسب بل كان يطلب في رثائه رسم تلك الشخصية المرجعية المثال والنموذج التي ينبغي أن يكون لها عند المسلمين نسخ عدة لا تقف عند فارس واحد إذا فقدناه فقدنا وإياه الفضائل . تكون حسب ما ذكرنا المبالغة ويكون التضخيم وسيلتين نحو تحقيق غاية سامية. عندئذ قد نقول إن أي وسيلة مشروعة مادامت الغاية نبيلة ً
تنوعت الإيقاعات في القصيدة داخليا وخارجيا بحسب ما يتناسب مع غرض الرثاء، وتعددت الصور المركبة والمختلفة ذات المنحيين الخيالي والتضخيمي لإيصال صورة عن المرثي أنه يفوق أهل عصره خصالا حربية وخصالا اجتماعية تكمل تميزه الحربي فإذا بالأمثلة المذكورة عن محمد بن حميد الطوسي تجعل منه ميتا يفتقده أهل قبيلته وأمته إضافة عن القيم وعن الأخلاق وعن الفن الشعري . لتبرز لنا في نهاية رسم البورتريه للشخصية المذكورة أننا أمام نموذج مثال مشتهى يرجى تكراره في الحياة العربية . هذا ما نؤكد أنه يستجيب مع وظيفة الشعر.
3) الخاتمة :
حفلت القصيدة بالمعاني الحماسية والحربية التي تظهر فرادة المرثي وتفوقه باعتماد وسائل إيقاعية وتصويرية ساعدت على تبليغ ما يراد إبرازه عن الشخصية في ذاتها أولا ثم في نموذجها المشترك المطلوب تحقيقه. غير أن المبالغات ظهر أنها أخلت بتوازن الأحزان عند المسلمين وفهمنا أنها تقصد إلى غاية تحفيز العرب للاقتداء بمثاله فهل تحقق القصيدة تأثيرها الوجداني والسلوكي عند قرائها؟